هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ... يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ اللهم انت القدوس اقطع عني كل معصية وعن جوارحي وامنع عن حواسي حررني من عبودية الشيطان ورق المعصية يا قدوس اذهب عني رجز الشيطان حتى تنقطع عني الوسواس بحق القدوس الجم افواه المتكلمين عني بسوء سبحان القدوس الخلاق
الاثنين، 18 يناير 2016
الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل يستند الارهاب الى ما ورد في سورة التوبة المباركة جهلا منهم لمعاني ومقاصد الايات المباركة لقطع الرؤس وتدمير معالم الحياة ونشر فتاوى فاسقة ممن خلت جماجمهم من اي علم او ركن وثيق
يستند الارهاب الى ما ورد في سورة التوبة المباركة
جهلا منهم لمعاني ومقاصد الايات المباركة
لقطع الرؤس وتدمير معالم الحياة
ونشر فتاوى فاسقة
ممن خلت جماجمهم من اي علم او ركن وثيق
طبعة جديدة منقّحة مع إضافات
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى
الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
المجَلّد السادس
الآيات
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَـرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَهِهِمْ يُضَـهؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَـتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَـهاً وَحِداً لاَّإِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـنَهُ عمّا يُشْرِكُونَ(31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ اِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـفِرُونَ(32) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الَّدِينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)
كان الكلام في الآيات المتقدمة بعد الحديث عن المشركين وإِلغاء عهودهم وضرورة إزالة دينهم ومعتقداتهم الوثنية يشير بعد ذلك إِلى أهل الكتاب وقد حدد الإِسلام لهم شروطاً ليعيشوا بسلام مع المسلمين، فإنّ لم يفوا بها كان على المسلمين أن يقاتلوهم.
[6]
وفي الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه بين أهل الكتاب والمشركين، ولا سيما اليهود والنصارى منهم، ليتّضح أنّه لو كان بعض التشدد في معاملتهم، فإنّما هو لإِنحرافهم عن التوحيد، وميلهم إِلى نوع من الشرك في العقيدة، ونوع من الشرك في العبادة.
فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث:
(وقالت اليهود عزيزٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون).
* * *
«عزير» في لغة العرب هو «عزرا» في لغة اليهود، ولمّا كانت العرب تغيّر في بعض الكلمات التي تردها من لغات أجنبية وتجري على لسانها، وذلك كما هي الحال في إِظهار المحبّة خاصّة فتصغر الكلمة، فصغرت عزرا إِلى عُزير، كما بُدلت كلمة يسوع العبرية إِلى عيسى في العربية، ويوحنا إِلى يحيى.(1)
وعلى كان حال، فإن عزيراً ـ أو عزرا ـ له مكانة خاصّة في تاريخ اليهود، حتى أن بعضهم زعم أنّه واضع حجر الأساس لأُمّة اليهود باني مجدهم وفي الواقع فإنّ له خدمةً كبرى لدينهم، لأنّ بخت نصر ملك بابل دمر اليهود تدميراً في واقعته المشهورة، وجعل مُدُنَهم، تحت سيطرة جنوده فأبادوها، وهدموا معابدهم، وأحرقوا توراتهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا نساءهم، وأسروا أطفالهم، وجيء بهم إِلى بابل فمكثوا هناك حوالي قرن.
1 ـ المراد من التصغير عادةً هو بيان كون الشيء صغيراً في قبال شيء آخر كبير، مثل رجيل المصغر عن رجل، لكن للتصغير أغراضاً بلاغية منها إِظهار المحبّة وغيرها، كما في اظهار الرجل محبته لولده فيصغّر إِسمه.
ولما فتح كورش ملك فارس بابل جاءه عزرا، وكان من أكابر اليهود، فاستشفعه في اليهود فشفّعه فيهم، فرجعوا إِلى ديارهم وكتب لهم التّوراة ـ ممّا بقي في ذهنه من أسلافه اليهود وما كانوا قد حدّثوا به ـ من جديد.
ولذلك فهم يحترمونه أيما احترام، ويعدّونه منقذهم ومحيي شريعتهم.(1)
وكان هذا الأمر سبباً أن تلقبه جماعة منهم بـ «ابن الله» غير أنّه يستفاد من بعض الرّوايات ـ كما في الإِحتجاج للطبرسي ـ أنّهم أطلقوا هذا اللقب احتراماً له لا على نحو الحقيقة.
ولكنّنا نقرأ في الرّواية ذاتها أنّ النّبي سألهم بما مؤدّاه (إذا كنتم تُجلّون عزيراً وتكرمونه لخدماته العظمى وتطلقَون عليه هذا الاسم، فعلامَ لا تسمّون موسى وهو أعظم عندكم من عزير بهذا الاسم؟ فلم يجدوا للمسألة جواباً وأطرقوا برؤوسهم)(2).
ومهما يكن من أمر فهذه التسمية كانت أكبر من موضوع الإِجلال والإِحترام في أذهان جماعة منهم، وما هو مألوف عند العامّة أنّهم يحملون هذا المفهوم على حقيقته، ويزعمون أنّه ابن الله حقّاً، لأنّه خلصهم من الدمار والضياع ورفع رؤوسهم بكتابة ا لتوراة من جديد.
وبالطبع فهذا الإِعتقاد لم يكن سائداً عند جميع اليهود، إلاّ أنّه يستفاد أنّ هذا التصّور أو الإِعتقاد كان سائداً عند جماعة منهم، ولا سيما في عصر النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل على ذلك أنّ أحداً من كتب التاريخ، لم يذكر بأنّهم عندما سمعوا الآية آنفة الذكر احتجوا على النّبي أو أنكروا هذا القول «ولو كان لبان».
وممّا قلناه يمكن الإِجابة على السؤال التّالي: أنّه ليس بين اليهود في عصرنا الحاضر من يدعي أنّ عزيراً ابن الله ولا من يعتقد بهذا الإِعتقاد، فعلام نسب
____________________________
1 ـ يراجع في هذا الشأن الميزان، ج 9، ص 253، والمنار، ج 10، ص 322.
2 ـ نور الثقلين، ج 6، ص 205، حديث طويل نقلنا خلاصته معناً لا نصاً، وإذا أردتم المزيد راجعوا المصدر المذكور.
القرآن هذا القول إِليهم؟!
وتوضيح ذلك، أنّه لا يلزم أن يكون لجميع اليهود مثل هذا الإِعتقاد، إِذ يكفي هذا القدر المسلم به، وهو أنّه في عصر نزول الآيات على النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في اليهود من يعتقد بهذا الإِعتقاد، والدليل على ذلك كما نوّهنا، هو أنّه لم ينكر أيّ منهم ذلك على النّبي والشيء الوحيد الذي صدر منهم ـ وفقاً لبعض الرّوايات ـ أنّهم قالوا: إِنّ هذا اللقب «ابن الله» إِنّما هو لإِحترام عزير، وقد عجزوا عن جواب لمّا سألهم وأشكل عليهم: لم لا تجعلون هذا اللقب إِذاً لنبيّكم موسى(عليه السلام)؟!
وعلى كل حال فمتى ما نسب قول أو اعتقاد إِلى قوم ما، فلا يلزم أن يكون الجميع قد اتفّقوا على ذلك، بل يكفي أن يكون فيهم جماعة ملحوظة تذهب إِلى ذلك.
لا ريب أن المسيحيين يعتقدون أن عيسى هو الابن الحقيقي لله، ولا يطلقون هذا الاسم إِكراماً وتشريفاً له، بل على نحو المعنى الواقعي له، وهم يصرّحون في كتبهم أن إِطلاق هذا الاسم على غير المسيح بالمعنى الواقعي غير جائز، ولاشك أنّ هذا من بدع النصارى، والمسيح لم يدّعِ مثل هذا الإِدعاء أبداً، وإِنّما كان يقول: بإنّه عبدٌّ لله، ولا معنى أساساً لأن ننسب علاقة الأبوة والبنوة الخاصّة بعالم المادة وعالم الممكنات بين الله وعباده أبداً.
يقول القرآن المجيد في الآية محل البحث: أنّهم ـ أي اليهود والنصارى ـ يضاهئون ـ أي يُشبهون بانحرافاتهم ـ الذين كفروا والمشركين.
وهذا التعبير يشير إِلى أنّهم مقلّدون إِذ كانوا يعتقدون بأنّ بعض الآلهة هو إِله
الأب، وبعضها إِله الابن، وحتى أنّ بعضهم كان يعتقد بأنّ هناك إِله الأُم، وإِله الزوج، وقد لوحظت مثل هذه الافكار في جذور عقائد المشركين في الهند أو الصين أو مصرالقديمة ثمّ تسرّبت إِلى اليهود والنصارى.
وفي العصر الحاضر خَطَر عند بعض المحقّقين أن يوازن ويقارن بين ما في العهدين «التوراة والإِنجيل ومايرتبط بهما» وبين عقائد البوذيين والبرهمائيين، فاستنتجوا أن كثيراً من معارف الإِنجيل والتوراة تتطابق مع خرافات البوذيين والبرهمائيين تطابقاً ملحوظاً، حتى أنّ بعض الحكايات والقصص الموجودة في الإِنجيل هي الحكايات والقصص ذاتها الموجودة في الديانة البوذائية والبرهمائية.
وإِذا كان المفكرون توصّلوا اليوم إِلى مثل هذه الحقيقة، فإنّ القرآن أشار إِليها قبل أربعة عشر قرناً في الآية محل البحث.
جملة وإِن كان معناها في الأصل أنّ الله مقاتلٌ إيّاهم وما إِلى ذلك، لكن كما يقول الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن ابن عباس، إِن هذه الجملة كناية عن اللعنة أي أنّ الله أبعدهم عن رحمته، فهو دعاء عليهم.
وفي الآية التالية إِشارة إِلى شركهم العملي في قبال الشرك الإِعتقادي، أو بعبارة أُخرى إشارة إِلى شركهم في العبادة، إِذ تقول الآية:
(اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم).
«الأحبار» جمع حبر، ومعناه العالم، و«الرهبان» جمع راهب وتطلق على من ترك دنياه وسكن الدير وأكبّ على العبادة.
وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم، ولم يصلوا ولم يصوموا لهم، ولم يعبدوهم أبداً، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الاحكام المخالفة لحكم
الله من قبلهم، فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى بالعبادة.
وهذا المعنى واردٌ في رواية عن الإِمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) إِذا قالا: «أمّا والله ما صاموا لهم ولا صلّوا، ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالا، فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون».(1)
وفي حديث آخر، أنّ عديّ بن حاتم قال: وفدت على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وكان في رقبتي صليب من الذّهب، فقال لي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا عدي ألق هذا الصنم عن رقبتك، ففعلت ذلك، ثمّ دنوت منه فسمعته يتلو الآية
(اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً)
فلمّا أتم الآية قلت له: نحن لا نتّخذ أئمتنا أرباباً أبداً، فقال: «ألم يحرموا حلال الله ويحلّوا حرامه فتتبعوهم؟ فقلتُ: بلى، فقال: فهذه عبادتهم».(2)
والدليل على هذا الموضوع واضح، لأنّ التقنين خاص بالله، وليس لأحد سواه أن يحل أو يحرم للناس، أو يجعل قانوناً، والشيء الوحيد الذي يستطيع الإِنسان أن يفعله هو اكتشاف قوانين الله وتطبيقها على مصاديقها.
فبناءً على ذلك لو أقدم أحد على وضع قانون يخالف قانون الله، وقبله إِنسان آخر دون قيد أو اعتراض او استفسار فقد عبد غيرالله، وهذا بنفسه نوع من أنواع الشرك العملي، وبتعبير آخر: هو عبادة غيرالله.
ويظهر من القرائن أنّ اليهود والنصارى يرون مثل هذا الإِختيار لزعمائهم، بحيث لهم أن يغيّروا ما يرونه صالحاً بحسب نظرهم، وما يزال بعض المسيحيين يطلب العفو من القسيس فيقول له القسّ، عفوت عنك! وكان ـ منذ زمن ـ موضوع صكوك الغفران رائجاً.
وهناك لطيفة أُخرى ينبغي الإِلتفات إِليها، وهي أنّه لما كانت عبادة المسيحيين لرهبانهم تختلف عن عبادة اليهود لأحبارهم، فالمسيحيون يرون المسيح ابن الله
____________________________
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية ونور الثقلين، ج 2، ص 209.
2 ـ مجمع البيان، ذيل الآيه.
واقعاً واليهود يطيعون أحبارهم دون قيد أو شرط، لذا فإنّ الآية أشارت إِلى عبادة كل منهما، فقالت:
(اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
ثمّ فصلت المسيح على حدة فقالت:
(والمسيح ابن مريم).
وهذا التعبير يدلّ على منتهى الدقة في القرآن.
وفي ختام الآية تأكيد على هذه المسألة، وهي أن جميع هذه العبادات للبشر بدعة، وهي من العبادات الموضوعة (وما أمروا إلاّ ليعبدوا إِلهاً واحداً لا إِله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون).
إِنّ القرآن المجيد يعلّم أتباعه في الآيه ـ محل البحث ـ درساً قيّماً جدّاً، ويبيّن واحداً من أبرز مفاهيم التوحيد فيها، إِذ يقول: لا يحقُّ لأيّ مسلم طاعةُ إِنسان آخر دون قيد أو شرط، لأنّ هذا الأمر مساو لعبادته، وجميع الطاعات يحب أن تكون في إطار طاعة الله، واِنّما يصح اتباع الإِنسان نظيره متى كانت قوانينه غير مخالفة لقوانين الله، أيّاً كان ذلك الإِنسان وفي أية مكانة أو منزلة. لأنّ الطاعة بلا قيد أو شرط مساوية للعبادة، أو هي شكل من أشكال الشرك والعبودية، إلاّ أنّه يا للأسف ـ بُلي المسلمون ـ لبُعد المسافة الزمنية ـ بالإِبتعاد عن تعاليم هذا الدستور الإِسلامي المهم، وإِقامه الأصنام البشرية، فتفرقوا وتغلب عليهم المستعمرون والمستثمرون، واِذا لم تتكسر هذه الأصنام البشرية فلا ينبغي أن ننتظر زوال هذه البلايا وسدّ الثغرات.
وأساساً فإنّ هذا النوع من الشرك أو العبادة الوثنية أخطر بكثير من عبادة الأصنام والأحجار في زمان الجاهلية، والسجود لها، لأنّ تلك الأصنام والأحجار ليس فيها روح حتى تستعمر عبدتها، إلاّ أنّ الاصنام البشرية وبسبب غرورهم وعدوانهم يجرّون أتباعهم إِلى الوبال والذلة والشقاء والإِنحطاط.
وفي الآية الثّالثة من الآيات محل البحث تشبيه طريف لسعي اليهود والنصارى، أو سعي جميع مخالفي الإِسلام حتى المشركين، وجدّهم واجتهادهم المستمر «العقيم» الذي لا يعود عليهم بالنفع أبداً، إِذ تقول الآية:
(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلاّ أن يُتمّ نورَهُ ولو كره الكافرون).
* * *
1 ـ شُبِّه الدين ـ دين الله ـ في هذه الآية وفي القرآنُ وتعاليم الإسلام بالنور، ونحن نعرف أن النّور أساس الحياة والحركة والنمو والعمران على الأرض ومنشأ كل جمال.
والإِسلام دين يحرّك كل مجتمع إِنساني نحو التكامل، وهو أساس كل خير وبركة.
كما شُبّه اجتهاد الكافر بالنفخ بالأفواه وكم هو مثير للضحك أن يحاول الإِنسان إطفاء نور عظيم كنور الشمس بنفخة؟ ولا تعبير أبلغ من تعبير القرآن لتجسيد هذه المحاولات اليائسة، وفي الواقع فإنّ محاولات مخلوق ضعيف إِزاء قدرة الله التي لا نهاية لها، لا تكون أحسن حالا ممّا ذكرته الآية.
2 ـ ورد موضوع محاولة إطفاء نورالله في القرآن في موردين: أحدهما في الآية محل البحث، والآخر في الآية (8) من سورة الصف، وفي الآيتين انتقاد للكفار ومحاولات أعداء الله اليائسة، إلاّ أن بين تعبيري الايتين تفاوتاً يسيراً، إِذ جاء التعبير في الآيه محل البحث
(يريدون أن يطفئوا)
إلاّ أن الآية (8) من سورة الصف جاء فيها التعبير
(يريدون ليطفئوا).
وممّا لا شك فيه أن هذا التفاوت أو الإِختلاف اليسير في التعبير القرآني لغاية بلاغية.
يقول الراغب في مفرداته موضحاً الفرق بين
(أن يطفئوا) و(ليطفئوا):
إِنّ الآية الأُولى تشير إِلى محاولة إطفاء نور الله بدون مقدمات، أمّا الآية الأُخرى فتشير إِلى محاولة إطفائه بالتوسل بالأسباب والمقدمات، فالقرآن يريد أن يقول: سواء توسّلوا بالأسباب أم لم يتوسلوا فلن يفلحوا أبداً، وعاقبتهم الهزيمة والخسران.
3 ـ كلمة «يأبى» مأخوذة من الإِباء، ومعناه شدة الإِمتناع وعدم المطاوعة، وهذا التعبير يثبت إِرادة الله ومشيئته الحتمية لإِكمال دينه وازدهاره كما أنّ التعبير مدعاة لإِطمئنان جميع المسلمين، إن كانوا مسلمين حقّاً! أنّ مستقبل دينهم لابأس عليه، بل هو مؤيد بأمرالله.
الآية الأخيرة من الآيات ـ محل البحث ـ في نهاية المطاف تزف البُشرى للمسلمين باستيعاب الإِسلام العالم بأسره، وتكمل ما أشارت إِليه ـ آنفاً ـ أن أعداء الإِسلام لن يفلحوا في محاولاتهم ومناوآتهم بوجه الإسلام أبداً، وتقول بصراحة:
(هو الذي أرسَل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون).
والمقصود من الهدى هو الدلائل الواضحة، والبراهين اللائحة الجليّة التي وُجِدَتْ في الدين الإسلامي.
وأمّا المراد من دين الحق، فهو هذا الدين الذي أُصوله حقّة وفروعه حقّة أيضاً، وكل ما فيه من تاريخ وبراهين ونتائج حق، ولا شك أن الدين الذي محتواه حق، ودلائله وبراهينه حقّة، وتأريخه حق جلي، لابدّ أن يظهر على جميع الأديان.
وبمرور الزمان وتقدم العلم وسهولة الإِرتباطات، فإن الواقع سيكشف وجهه ويطلعه من وراء سُدُلِ الإِعلام المضللة، وستزول كل العقبات والموانع والسدود
التي وضعت في طريق انتشار الإسلام.
وهكذا فإنّ دين الحق سيستوعب كل مكان، ولا يحول بينه وبين تقدمه شيء أبداً، لأنّ الحركات المضادة للإِسلام حركات مخالفة لسير التأريخ وسنن الخلق.
* * *
هذا التعبير الوارد في الآية محل البحث:
(أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)
بمثابة الدليل على انتصار الإِسلام وظهوره على جميع الأديان، لأنّه لمّا كان محتوى دعوة النّبي الهداية، والعقل يدل على ذلك في كل موطن، ولما كانت أُصوله وفروعه موافقة للحق، ومع الحق، وتسير في مسيرالحق، ولأجل الحق. فهذا الدين سينتصر على جميع الأديان طبعاً.
وقد جاء عن أحد علماء الهند أنّه سبر فكره في مطالعة مختلف الأديان فترة من الزمن، وانتهى أمره إِلى اختيار الدين الإِسلامي من بين جميع أديان العالم، ثمّ نشر كتاباً بالإِنجليزية اسمه «لِمَ أسلمتُ؟» وبيّن فيه مزايا الدين الإِسلامي على غيره من الأديان.
ومن أهم المسائل التي أثارت انتباهه ـ كما يقول ـ أنّ الإِسلام هو الدين الوحيد الذي له تأريخ ثابت محفوظ ويتعجّبُ كيف اختارت أوربا لها ديناً ترى إنَّ من جاء به أجَلّ من الإِنسان وتعدّه ربّها، مع أن هذا الدين ليس له تاريخ دقيق.(1)
إنّ مطالعة آراء الذين اعتنقوا الإِسلام ديناً جديداً وعزفوا عن دينهم السابق، تكشف أنّهم كانوا في منتهى البساطة والغفلة والتضليل، بينما دلتّهم أُصول الإِسلام
____________________________
1 ـ المنار، ج 10، ص 389.
وفروعه ذات الأدلّة المحكمة إِلى الدين الإلهي البعيد عن الخرافات كلّها، والذي يتجلى فيه نور الحق والهداية.
هناك كلام بين المفسّرين في كيفية ظهور الدين الإِسلامي على سائر الأديان، وهذا الظهور أو الإِنتصار في أيّ شكل هو؟
قال بعض المفسّرين: هذا الإِنتصار انتصار منطقي استدلالي فحسب، ويقولون بأن هذا الموضوع حاصل فعلا، لأنّ الإِسلام من حيث منطقهُ ودلائله لا يقاس به دين آخر.
غير أنّ التحقيق في موارد استعمال مادة «الإظهار» في قوله تعالى:
(ليُظهره على الدين كله)
يكشف أنّ هذه المادة غالباً ما تستعمل في القدرة الظاهرية والغلبة المادية، كما جاء في قصّة أصحاب الكهف: (إنّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم)(1)
وكما نقرأ في شأن المشركين
(كيف وإِن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّة)(2).
فمن البديهي أنّ الغلبة في مثل هذه الموارد ليست غلبة منطقية، بل هي غلبة عينية وفعلية، وعلى كل حال فمن الأفضل والأكثر صحة أن نعتقد بأنّ هذا الظهور والغلب ظهور مطلق ـ من جميع الجوانب ـ لأنّه ينسجم ومفهوم الآية التي هي مطلقة من جميع الجهات أيضاً، فيكون المعنى أنّه سيأتي يوم ينتصر فيه الإِسلام انتصاراً منطقياً وانتصاراً ظاهرياً، في امتداد سيطرته ونفوذه المطلق، وحكومته العامّة على جميع الأديان، وسيجعل جميع الأديان تحت شعاعه.
____________________________
1 ـ الكهف، 20.
2 ـ التوبة، 8.
إنّ الآية ـ محل البحث ـ عينها وبالالفاظ ذاتها، وردت في سورة الصف، كما وردت في أُخريات سورة الفتح باختلاف يسير.
والآية تخبر عن حدث مُهِمّ كبير استدعت أهميته هذه أن تتكرر الآية في القرآن، وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية هو استيعابُ الإِسلام للعالم بأسرهِ.
وبالرغم من أن بعض المفسّرين فسر الإِنتصار ـ في الآية محل البحث ـ انتصاراً في منطقة معينة ومحدودة، وقد حدث ذلك فعلا في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو ما بعده من العصور للإِسلام والمسلمين، إلاّ أنّه مع ملاحظة أن الآية مطلقة لا قيد فيها لا شرط، فلا دليل على تحديد المعنى، فمفهوم الآية انتصار الإِسلام كليّاً ـ ومن جميع الجهات ـ على جميع الأديان، ومعنى هذا الكلام أنّ الإِسلام سيُهيمن على الكرة الأرضية عامّة، وسينتصر على جميع العالم.
ولا شك أن هذا الأمر لم يتحقّق في الوقت الحاضر، لكنّنا ندري أن هذا وعد من قبل الله حتمي وأنّه سيتحقق تدريجاً، فسرعة انتشار الإِسلام وتقدمه في العالم، والاعتراف الرسمي به من قبل الدول الأوروبية المختلفة ونفوذه السريع في أفريقياو أمريكا، وإعلان كثير من العلماء والمفكرين اعتناقهم الإِسلام، كل ذلك يشير إِلى أنّ الإِسلام أخذ باستيعاب العالم.
إلاّ أنّه طبقاً للرّوايات المختلفة الواردة في المصادر الإِسلامية، فإنّ هذا الموضوع إِنّما يتحقق عند ظهور المهدي(عليه السلام) فيجعل الإِسلام عالمياً.
ينقل العلامة الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) الآية محل البحث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ ذلك يكون عند خروج المهدي، فلا يبقى أحدٌ إلاّ أقرّ بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)».
كما ورد في التّفسير ذاته عن النّبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا بر إلاّ أدخله الله كلمة الإِسلام».
كما أن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه روى عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية ـ في كتابه إِكمال الدين ـ أنّه قال: «والله ما نزل تأويلها بعدُ،ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم، فإِذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم».(1)
وهناك أحاديث أُخرى بهذا المضمون وردت عن أئمة المسلمين عليهم السلام.
كما أنّ جماعةً من المفسّرين ذكروا هذا التّفسير في ذيل الآية أيضاً.
إِلاّ أنّ المدهش أن كاتب «المنار» هنا لم يكتف برفض هذا التّفسير المذكور آنفاً، بل ناقش الأحاديث في المهدي(عليه السلام)، وحاول أن ينكر بتعصبه الخاص جميع الأحاديث الواردة في شأنه، ولم يألُ جهداً في التذرع بما لديه من الحجج الواهية ليقول: إِنّ هذه الأحاديث لا يمكن قبولها بحال، ويزعم أنّ الإِعتقاد بوجود المهدي من أفكار الشيعة، ومعتقداتهم، أو معتقدات من يميل إِلى التشيّع.
ثمّ بعد هذا كلّه يرى صاحب «المنار» أنّ الإِعتقاد بوجود المهدي مدعاة للتخلف والرّكود!
ومن هنا نرى أنّه لابدّ أن نعالج ـ ولو باقتضاب ـ الرّوايات الواردة في شأن المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» وآثار هذا الإِعتقاد في تقدم المجتمع الإِسلامي، ومواجهة الظلم والفساد، ليُعلم أن التعصب اذا دخل من باب خرج العلم والمعرفة من باب آخر.
ومع أنّ صاحب المنار له باع طويلة في العلوم والمعارف الإِسلامية، إلاّ أنّه لنقطة الضعف التي ابتلي بها «التعصب الشديد» يقلب بعض الحقائق الجليّة وينكرها تماماً.
____________________________
1 ـ نورالثقلين، ج 2، ص 211.
بالرّغم من كثرة الكتب المؤلة من قبل علماء أهل السنة وعلماء الشيعة، في شأن الأحاديث الواردة في المهدي(عليه السلام) ونهضته الإِصلاحية، إلاّ أنّنا نعتقد أنّ كل ذلك ليس بأبلغ ولا أوجز في الوقت ذاته ممّا كتبه علماء الحجاز من رسائل ردّاً على السائلين في هذا المجال، لذلك نرى من المناسب أن ننقل مضامين تلك الإِجابات ومؤداها للقراء الكرام.
لكنّنا نذكر قبلا، أنّ الرّوايات الواردة في المهدي «عجل الله فرجه الشريف» من الكثرة بحيث لا يستطيع أي محقق اسلامي ـ من أي مذهب كان ـ أن ينكر تواترها.
وقد كُتبت حتى الآن كُتب كثيرة في هذا الصدد، وقد اتفق مؤلّفوها على صحة الأخبار الواردة في المصلح المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف»، إلاّ أنّ أفراداً معدودين ـ كأحمد أمين المصري وابن خلدون ـ ومن تبعهما، يشككون في صدور هذه الأحاديث عن نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) والقرائن المتوفرة في أيدينا تدل على أن الباعث على ترددهم لم يكن لضعف في الأخبار، بل كانوا يرون أن الرّوايات الواردة في المهدي(عليه السلام) مشتملة على مسائل لا تكاد تصدّقُ بسهولة أو أنّهم لم يستطيعوا أن يميّزوا الاحاديث الصحيحة عن غيرها. او لم يجدوا تفسيراً لها.
وعلى كل حال يلزمُنا قبلَ كلّ شيء أن نضع بين يدي القراء الكرام نص السّؤال والجواب الذي نشرته رابطة العالم الإسلامي والتي يقوم عليها أشدّ المتزمتين إفراطاً ـ في المذاهب الإِسلامية ـ أي الوهابيين، ليتّضح أنّ مسألة ظهور المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» بين المسلمين تعتقد بها الأغلبية الساحقة منهم، ونعتقد أن هذه الرسالة على وجازتها جمعت في طيّها الدلائل على ذلك بما ليس لكل أحد أن يتوفر له هذا الجمع، وإِذا كان الوهابيون المتعصبون قد أذعنوا لهذا الامر، فللسبب ذاته المشار إليه آنفاً في الرسالة.
فقبل بضعة أعوام وجّه شخص من كينيا ـ يدعى أبا محمّد ـ سؤالا إِلى رابطة العالم الإِسلامي في شأن المهدي المنتظر «عجّل الله فرجه الشّريف».
فأجابه مدير الرّابطة، محمّد صالح القزاز، بردٍّ يتضمّن تصريحاً بأنّ ابن تيميّة يؤمن بالاحاديث الواردة في شأن المهديّ أيضاً، وقد كتب هذه الرسالة خمسة علماء معروفين من أهل الحجاز جواباً على سؤال أبي محمّد الكيني.
وقد ورد في هذه الرسالة بعد ذكر اسم المهدي(عليه السلام) ومحل ظهوره «مكّة» مايلي:
«عند ظهوره يكون العالم مليئاً بالفساد والكفر والجور، فيملأ الله به «المهدي» العالم عدلا كما ملىء ظلماً وجوراً، وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين أخبر عندهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب الصحاح.
والأحاديث المتعلقة بالمهديّ نقلها عدّة من أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منهم: عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيدالله، عبدالرحمن بن عوف، قرة بن أساس المزني، عبدالله بن الحارث، أبو هريرة، حذيفة بن اليمان، جابر بن عبدالله، أبو أمامة، جابر بن ماجد، عبدالله بن عمر، أنس بن مالك، عمران بن الحصين، وأُم سلمة.
فهؤلاء عشرون راوياً صحابياً رووا عن النّبي في المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» وغيرهم كثير أيضاً، وهناك أحاديث كثيرة عن الصحابة أنفسهم ورد فيها الكلام عن ظهور المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» ويمكن أن تضاف هذه الرّوايات إِلى الرّوايات الواردة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ ذلك «أي الكلام في المهدي» لم يكن مسألة اجتهادية ليمكن الإِجتهاد فيها، فبناءً على ذلك فإنّ الصحابة قد سمعوا هذا الموضوع من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
إن الأحاديث آنفة الذكر المرويّة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مذكورة في كتب الحديث
والكتب الإسلامية الأُخرى سواء منها السنن أو المعاجم أو المسانيد، وكذلك شهادات الصحابة وأقوالهم التي هي بمثابة الحديث أيضاً، ومن الكتب التي وردت فيها الأحاديث في المهدي أو أقوال الصحابة هي: سنن أبي داود، وسنن الترمذي، وابن ماجه، وابن عمرو الداني، ومسند أحمد، وابويعلى، والبزاز، وصحيح الحاكم، ومعجما الطبراني «الكبير والمتوسط» والرواياني، والدارقطني، وأبو نعيم في أخبار المهدي، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تأريخ دمشق، وغيرها.
وتضيف الرسالة: إنّ بعض العلماء المسلمين كتبوا في هذا الشأن كتباً خاصّة، منهم: أبو نعيم في أخبار المهدي، وابن حجر الهيثمي في «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر»، والشوكاني، في «التوضيح في تواتر ماجاء في المنتظر والدجال والمسيح» وإِدريس العراقي المغربي في كتاب المهدي، وأبوالعباس بن عبدالمؤمن المغربي في كتاب «الوهم المكنون في الردّ على ابن خلدون».
وآخر من كتب في هذا الشأن بحثاً مطوّلا، وهو مدير الجامعة الإِسلامية في المدينة المنورة «في حلقات متعدّدة في مجلة الجامعة المذكورة».
ثمّ تضيف الرسالة أيضاً، إن جماعة من علماء الإِسلام قديماً وحديثاً صرّحوا في كتبهم أن الأحاديث الواردة في المهدي تقرب من التواتر ولا يمكن إِنكارها بأيّ وجه، ومنهم.
السخاوي في «فتح المغيثِ» ومحمّد بن الحسن السفاويني في «شرح العقيدة» وأبوالحسن الأبري في «مناقب الشافعي» وابن تيمية في «فتاواه» والسيوطي في «الحاوي» وإِدريس العراقي في كتابه «المهدي» والشوكانيفي كتاب «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر» ومحمّد جعفر الكناني في «نظم التناثر» وأبوالعباس بن عبدالمؤمن في «الوهم المكنون ...».
وتختم الرسالة بالقول بأن ابن خلدون وحده أنكر الأحاديث في المهدي،
وعدّها واهية لا أساس لها، وأنّها عارية من الصحة، إِذ قال: لا مهديّ إلاّ عيسى، إلاّ أنّ علماء الإِسلام ورجاله ردّوا على مقالته، وخاصّة أبوالعباس بن عبدالمؤمن في كتابه «الوهم المكنون في الردّ على ابن خلدون» الذي خصّص في كتابه بحثاً مسهباً في هذا الشأن، وقد نشر الكتاب منذ أكثر من ثلاثين سنة.
ويقول حفاظ الأحاديث والعلماء الكبار بصراحة، إِن الأحاديث في المهدي تشتمل على الصحيح والحسن، ومجموعها متواتر، فبناءً على ذلك فالإِعتقاد بظهور المهدي واجب على كل مسلم، ويُعدّ هذا من عقائد أهل السنة والجماعة ولاينكرها إلاّ الجهلة أو المبتدعون ... الخ.
مدير إدارة مجمع الفقه الإِسلامي
محمّد المنتصر الكنائي
* * *
كان الكلام في البحث السابق أن هذا الإِعتقاد لم يكن ممّا طراً على التعاليم الإِسلامية، بل هو من أكثر المباحث القطعية المأخوذة عن مؤسس دعائم الإِسلام صلوات الله عليه، ويتفق على ذلك عموم الفرق الإِسلامية، والأحاديث في هذا الشأن متواترة أيضاً.
والآن لنقف على آثار الإِنتظار في المجتمعات الإِسلامية وما هي عليه من أحوال، لنرى هل أن الإِيمان بظهور الإمام المهدي(عليه السلام) يجعل الانسان عارفاً في الوهم والخيال ثمّ ليستسلم لجميع الظروف، أو هو نوع من الدّعوة إِلى النهوض وبناء الإِنسان والمجتمع؟!
هل يدعو إِلى التحرك، أم إِلى الركود؟
هل يبعث في الانسان روح المسؤولية، أم هو مدعاة للفرار منها؟
وأخيراً: أهو مخدّر، أم موقظ؟
إِلاّ أنّه قبل أن نوضح الإِجابة على هذه الأسئلة ـ لابدّ من الإِلتفات إِلى هذه الملاحظة وهي أن أسمى المفاهيم وأكرم الدساتير متى ما وقعت في أيدي أناس جهلة أو غير جديرين بها، فمن الممكن أن تُمسخ بسوء استفادتهم فتكون النتيجة خلافاً للهدف الأصلي تماماً وتتعاكس في المسار، ومثل هذا واقع بكثرة، وسنرى أن مسألة انتظار المهدي(عليه السلام) من هذه المسائل أيضاً.
ومن أجل تحاشي والأخطاء والإِشتباهات في مثل هذه المباحث، ينبغي ـ كما قيل ـ أن ننهل الماء من معينه العذب، لئلانجد فيه كدر الأنهار أو السواقي المشوبة. أي علينا أن نراجع النصوص الإِسلامية الأصيلة مباشرة وأن نفهم الإِنتظار من لسان رواياتها المختلفه، حتى نطّلع على الهدف الأصليّ منها!
1 ـ سأل بعضهم الإِمام الصّادق(عليه السلام): ما تقول في رجل موال للأئمّة(عليهم السلام) وينتظر ظهور حكومة الحق، ثمّ يموت وهو على هذه الحال؟!
فقال الإِمام الصادق(عليه السلام): هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه. ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: هو كمن كان مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
وهذا المضمون نفسه ورد في روايات متعددة بتعابير مختلفة:
2 ـ إِذ جاء في بعضها: بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله.
3 ـ وفي بعضها: كمن قارع مع رسول الله بسيفه.
4 ـ وفي بعضها: بمنزلة من كان قاعداً تحت لواء القائم.
5 ـ وفي بعضها: بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله.
6 ـ وفي بعضها: بمنزلة من اسُتشهد مع رسول الله.
____________________________
1 ـ محاسن البرقي، طبقاً لما ورد في البحار، الطبعة القديمة، ج 13، ص 136.
فهذه التشبيهات السبعة في الرّوايات الست المذكورة، آنفاً في شأن المهدي(عليه السلام)، تبيّن هذه الواقعية وهي أنّ هناك علاقه وارتباط بين مسألة الإِنتظار من جانب، وجهاد العدوّ في أشدّ أشكاله من جانب آخر «فتأملوا بدقّة».
7 ـ كما ورد في روايات متعددة أن انتظار مثل هذه الحكومة الحقة من أفضل العبادات، وهذا المضمون ورد في بعض أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلام الإِمام أميرالمؤمنين علي(عليه السلام).
فقد ورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أفضل أعمال أُمّتي إنتظار الفرج من الله عزّوجلّ».(1)
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث آخر: «أفضل العبادة انتظار الفرج».(2)
وهذان الحديثان يشيران إِلى انتظار الفرج، سواء الفرج بمفهومه الواسع العام أو بمفهومه الخاص أي انتظار ظهور المصلح ويبيّنان أهمية الإِنتظار بجلاء أيضاً.
ومثل هذه التعابير تعني أنّ الإِنتظار معناه الثورية المقرونة بالتهيؤ للجهاد، فلابدّ أن نتصوّر هذا المعنى لنفهم المراد من الإِنتظار، ثمّ نحصل على النتيجة المتوخاة.
الإِنتظار: يطلق عادةً على من يكون في حالة غير مريحة وهو يسعى لإِيجاد وضع أحسن.
فمثلا المريض ينتظر الشفاء من سقمه، أو الأب ينتظر عودة ولده من السفر، فهما أي المريض والأب مشفقان، هذا من مرضه وذاك من غياب ولده، فينتظران الحال الأحسن ويسعيان من أجل ذلك بما في وسعهما.
وكذلك ـ مثلا ـ حال التّاجر الذي يعاني الأزمة السوقية وينتظر النشاط
____________________________
1 ـ الكافي، حسب ما جاء في البحار، ص 136 و 137.
2 ـ المصدر السّابق.
الإِقتصادى. فهاتان الحالتان أي: الاحساس بالأزمة، والسعيُ نَحْوَ الأحسن هما من الإِنتظار.
فبناءً على ذلك، فإنّ مسألة إنتظار حكومة الحق والعدل، أي حكومة «المهدي(عليه السلام)» وظهور المصلح العالمي، مركبة في الواقع من عنصرين: عنصر نفي، وعنصر إِثبات، فعنصر النفي هو الإِحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر، وعنصر الإِثبات هو طلب الحال الأحسن!
وإِذا قُدّر لهذين العنصرين أن يحلاّ في روح الإِنسان فإِنّهما يكونان مدعاة لنوعين من الأعمال وهذان النوعان هما:
1 ـ ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد، بل عليه أن يقاومها، هذا من جهة.
2 ـ وبناء الشخصية والتحرك الذاتي وتهيئة الإِستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية لظهور تلك الحكومة العالمية الإِنسانية، من جهة أُخرى.
ولو أمعنّا النظر لوجدنا أنّ هذين النوعين من الأعمال هما سبب في اليقظة والوعي والبناء الذاتي.
ومع الإِلتفات إِلى مفهوم الإِنتظار الأصيل، ندرك بصورة جيدة معنى الرّوايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم، وعندها نعرف لم سمّت الرّوايات المنتظرين بحقّ بأنّهم بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه «عجل الله فرجه» أو أنّهم تحت لوائه، أو أنّهم كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه كالمستشهد بين يديه، أو كالمتشحط بدمه! ... الخ ... .
تُرى أليست هذه التعابير تشير إِلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدل، التي تتناسب ومقدار الإِستعداد ودرجة انتظار الناس؟
كما أنّ ميزان التضحية ومعيارها ليس في درجة واحدة، إِذا أردنا أن نزن تضحية المجاهدين، في سبيل الله ودرجاتهم وآثار تضحياتهم، فكذلك الإِنتظار
وبناء الشخصيّة والإِستعداد، كل ذلك ليس في درجة واحدة، وإِن كان كلّ من هذه «العناوين» من حيث المقدمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر. فكلّ منهما جهاد وكل منهما استعداد وتهيؤ لبناء الذات، فمن هو تحت خيمة القائد وفي فسطاطه يعني أنّه مستقر في مركز القيادة، وعند آمرية الحكومة الاسلامية! فلا يمكن أن يكون إِنساناً غافلا جاهلا، فذلك المكان ليس مكاناً لكل أحد وإِنّما هو مكان من يستحقه بجدارة!
فكذلك الأمر عندما يقاتل المقاتل بين يدي هدا القائد أعداء حكومة العدل والصلاح، فعليه أن يكون مستعداً بشكل كامل روحياً وفكرياً وقتالياً.
ولمزيد التعرف على الآثار الواقعية لإِنتظار ظهور المهدي(عليه السلام) لاحظوا التوضيح التّالي:
اِذا كنتُ ظالماً مجرماً، فكيف يتسنى لي أن أنتظر من سيفه متعطش لدماء الظالمين؟!
وإِذا كنتُ ملوّثاً غير نقي فكيف أنتظر ثورة يحرق لهبها الملوّثين؟!
والجيش الذي ينتظر الجهاد الكبير يقوم برفع معنويات جنوده ويلهمهم روح الثورة، ويصلح نقاط الضعف فيهم إِن وجدت، لأنّ كيفية الإِنتظار تتناسب دائماً والهدف الذي نحن في انتظاره.
1 ـ انتظار قدوم أحد المسافرين من سفره.
2 ـ انتظار عودة حبيب عزيز جداً.
3 ـ انتظار حلول فصل اقتطاف الثمار وجني المحاصيل.
كل من هذه الأنواع من الإِنتظار مقرون بنوع من الإِستعداد، ففي أحدها ينبغي تهيئة البيت ووسائل التكريم، وفي الآخر ما ينبغي أن يقتطف به من الادوات
والسلال وهكذا ... والآن سنتصوّر كيف يكون إنتظار ظهور مصلح عالمي كبير وكيف نكون في انتظار ثورة وتغيير وتحول واسع لم يشهد تأريخ الإِنسانية مثيلا له؟
الثورة التي ليست كسائر الثورات السابقة، إذ هي غير محدودة بمنطفة ما، بل هي عامّة وللجميع، وتشمل جميع شؤون الحياة والناس، فهي ثورة سياسية، ثقافية، اقتصادية، أخلاقية.
إِنّ بناء الشّخصية ـ قبل كل شيء ـ بحاجة إِلى عناصر معدّة ذات قيم إِنسانية، ليمكن للفرد أن يتحمل العبء الثقيل الإِصلاحي للعالم، وهذا الأمر بحاجة ـ أوّلا ـ إِلى الإِرتقاء الفكري والعلمي والإِستعداد الروحي، لتطبيق ذلك المنهج العظيم. فالتحجر، وضيق النظر والحسد، والإِختلافات الصبيانية، وكل نفاق بشكل عام أو تفرقة لا تنسجم ومكانة المنتظرين الواقعيين.
والمسألة المهمّة ـ هنا ـ أنّ المنتظر الواقعي لا يمكنه أن يقف موقف المتفرج ممّا أشرنا إِليه آنفاً، بل لابدّ أن يقف في الصف الآخر، أي صف الثائرين المصلحين، فالإِيمان بالنتائج وما يؤول إليه هذا التحول، لا يسمح له أبداً أن يكون في صف «المثبطين» المتقاعسين، بل يكون في صف المخلصين المصلحين، ويكون عمله خالصاً وروحه أكثر نقاءً، وأن يكون شهماً عارفاً معرفةً كافية بالأُمور.
فإِذا كنتُ فاسداً معوجّاً فكيف يمكنني أن أنتظر نظاماً لا مكان فيه للفاسدين؟ أليس مثل هذا الإِنتظار كافياً لأن أُطهّر نفسي وفكري، وأغسل جسمي وروحي من التلوّث؟!
والجيش الذي ينتظر جهاداً تحررياً لابدّ له أن يكون في حالة من الإِستعداد الكامل، وأن يُهيىء السلاح الجدير بالمعركة، وأن يصنع الملاجىء والمواضع
العسكرية اللازمة وأن يرفع المعنويات القتالية في صفوف أفراده، ويقوي روحيّاتهم، يُسرج في قلوبهم شعلة العشق للمواجهة فإنّ جيشاً ليس فيه مثل هذه الإِستعدادات لا يكون جيشاً (منتظراً) وإذا ادعى الإِنتظار فهو «كاذب»!
إنّ انتظار المصلح، « العالمي» معناه الإِستعداد الكامل فكرياً، وأخلاقياً، مادياً ومعنوياً، الإِستعداد لإِصلاح العالم كلّه. فتصوّروا أنّ مثل هذا الإِستعداد كم يكون بنّاء؟!
فإصلاح المعمورة كلّها، وإِنهاء الظلم والفساد والنواقص ليس عملا بسيطاً، ولا هو بالمزاح أو الهزل، بل الإِستعداد لمثل هذا الهدف الكبير ينبغي أن يتناسب معه، وأن يكون بسعته وعمقه!
فلابدّ من وجود رجال كبار مصممين ذوي إرادة أقوياء لاينكصون ولا ينهزمون أبداً، ذوي نظرة واسعة واستعداد تام وتفكير عميق، حتى تتحقق مثل هذه الثورة الإِصلاحية العالمية.
وبناء الشخصية لمثل هذا الهدف يستلزم الإِرتباط بأشد المناهج الأخلاقية، والفكرية والإِجتماعية أصالة وعمقاً، فهذا هو معنى الإِنتظار الواقعي! تُرى هل يستطيع أن ينكر أحد فيقول: إِن مثل هذا الإِنتظار لا يكون فاعلا.
إِنّ المنتظرين بحق في الوقت الذي ينبغي عليهم أن يهتمّوا ببناء «شخصيتهم» عليهم، أن يراقبوا أحوال الآخرين، وأن يجدّوا في إصلاحهم جدّهم في إِصلاح ذاتهم... لأنّ المنهج العظيم الذي ينتظرونه ليس منهجاً فرديّاً، بل هو منهج ينبغي أن تشترك فيه جميع العناصر الثورية، وأن يكون العمل جماعياً عاماً، وأن تتسقَ المساعي والجهود بشكل يتناسب وتلك الثورة العالمية هم في انتظارها.
ففي ساحة معركة واسعة يقاتل فيها مجموعة جنباً إِلى جنب، لا يمكن لاحد
منهم أن يغفل عن الآخرين بل عليه أن يشدّ أزرهم وأن يسدّ الثغرة ويصلح نقطة الضعف إِن وُجدت ويرمم المواضع المتداعية ويدعم ما ضعف منها، لأنّه لا يمكن تطبيق مثل هذا المنهج دون مساهمة جماعية نشيطة فعّالة متسقة متناسقة!
فبناءً على ذلك فالمنتظرون بحقّ عليهم أن يصلحوا حال الآخرين بالإِضافة إِلى اصلاح حالهم.
فهذا هو الأثر الآخر البنّاء، الذي يورثه الإِنتظار لقيام مصلح عالمي، وهذه حكمة الفضائل التي ينالها، المنتظرون بحق.
إِنّ الأثر المهم الآخر للإِنتظار هو عدم ذوبان المنتظرين في المحيط الفاسد، وعدم الإِنقياد وراء المغريات والتلوّث بها أبداً.
وتوضيح ذلك: أنّه حين يعم الفساد المجتمع، أو تكون الأغلبية الساحقة منه فاسدة، فقد يقع الإِنسان النقي الطاهر في مأزق نفسي، أو بتعبير آخر: في طريق مسدود «لليأس من الإِصلاحات التي يتوخّاها».
وربّما يتصور «المنتظرون» أنّه لا مجال للإِصلاح، وأن السعي والجدّ من أجل البقاء على «النقاء» والطهارة وعدم التلوّث، كل ذلك لا طائل تحته، أو لا جدوى منه، فهذا اليأس أو الفشل قد يجرّ الإِنسان نحو الفساد والإِصطباغ بصبغة المجتمع الفساد، فلا يستطيع المنتظرون عندئذ أن يحافظوا على أنفسهم باعتبارهم أقليّة صالحة بين أكثرية طالحة، وأنّهم سيفتضحون إِن أصروا على مواصلة طريقهم وينكشفون لأنّهم ليسوا على شاكلة الجماعة.
والشيء الوحيد الذي ينعشُ فيهم الأمل ويدعوهم الى المقاومة والتجلد وعدم الذّوبان والإِنحلال في المحيط الفاسد، هو رجاؤهم بالإصلاح النهائي، فهم في هذه الحال ـ فحسب ـ لا يسأمون عن الجد والمثابرة، بل يواصلون طريقهم في
سبيل المحافظة على الذات وحفظ الآخرين وإِصلاحهم أيضاً.
وحين نجد ـ في التعاليم الإِسلامية ـ أن اليأس من رحمة الله وثوابه من أعظم الذنوب والكبائر، فقد يتعجب بعض الجهّال: كيف يكون اليأس من رحمة الله من الكبائر والى هذه الدرجة من الأهمية، حتى أنّه أشدّ من سائر الذنوب الأُخرى، فإنّ حكمته و«فلسفتة» في الحقيقة هو ما أشرنا إِليه آنفاً، لأنّ العاصي الآيس من رحمة الله لا يرى شيئاً ينقذه ويخلصه من عذاب الله، فلا يفكر بإِصلاح الخلل، أو ـ يكفّ عن الذنب على الأقل لأنّه يقول في نفسه: أنا الغريقُ فهل أحشى من البلل؟ والنهاية الحتمية جهنّم، وقد أشتريتها، فما عسى أن أفعل؟ ... وما الى ذلك.
إِلاّ أنّه حين تنفتح له نافذة الأمل، فإنّه سيرجو عفو ربّه، ويتجه نحو تغيير نفسه وحاله، ويحصل له منعطف جديد في حياته يدعوه الى التوقف عن مواصلة الذنوب والعودة نحو الطهارة والنقاء والإِصلاح.
ومن هنا يمكننا أن نعتبر أنّ الأمل عامل تربوي مهم ومؤثر في المنحرفين أو الفاسدين، كما أنّ الصالحين لا يستطيعون أن يواصلوا مسيرهم في المحيط الفاسد إِذا لم يكن لهم أمل بالإِنتصار على المفاسد.
والنتيجة أنّ معنى إنتظار ظهور المصلح، هو أنّ الدنيا مهما مالت نحو الفساد أكثر كان الأمل بالظهور أكثر، والإِنتظار يكون له أثر نفسي كبير، فيضمن للنفوس القوّة في مواجهة الأمواج والتيارات الشديدة كيلا يجرفها الفساد، فهم ليسوا أربط جأشاً فحسب، بل بمقتضى قول الشاعر:
عندما يأزف ميعاد الوصال فلظى العشّاق في أيّ اشتعَال
إِذن فهم يسعون أكثر للوصول الى الهدف المنشود، وتنشد همتهم لمواجهة الفساد ومكافحته بشوق لا مزيد عليه.
وممّا ذكرناه ـ آنفاً ـ نستنتج أن الأثر السلبي للإِنتظار إِنّما يكون في صوره ما لو مسخ مفهومه أو حُرّف عن واقعه، كما حرفه المخالفون والأعداء، ومسخه
الموافقون، غير أنّه لو أخذ بمفهومه الواقعي لكان عاملا تربويّاً مهمّاً بنّاءً محرّكاً باعثاً على الأمل والرجاء.
وممّا يؤيد هذا الكلام ما ورد عن الأئمّة الطّاهرين(عليهم السلام) في تفسير هذه الآية:
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض)
إِذ جاء أنّ المراد من الآية هو «القائم وأصحابه».(1)
كما جاء في حديث آخر أنّها، أي هذه الآية نزلت في المهدي(عليه السلام).
وقد عبّرت هذه الآية عن الإمام المهدي وأصحابه بـ
(الذين آمنوا وعملوا الصالحات).
فبناءً على ذلك فإنّ تحقّق هذه الثورة الإِصلاحية بدون إِيمان مستحكم يقضي على كل أنواع الضعف والتحلّل وبدون عمل صالح يفتح الطريق لإِصلاح العالم، فإن هذا التحقّق مستبعد جدّاً.
والطالبون لهذا التحقّق عليهم أن يزدادوا إِيماناً ومعرفة، وأن يجدّوا في العمل الصالح وإِصلاح ذاتهم.
وهؤلاء هم طليعة تلك الحكومة العالمية وأملها المشرق، لا من ركن الى الظلم والجور ... .
وليس المنتظر لتلك الحكومة الاشخاص الضعاف الهمة والجبناء الذين يخافون حتى من ظلّهم.
ولا البطّالون الساكتون عن الحق التّاركون للآمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيطهم الفاسد. أجل ... هذا هو الأثر الإيجابي البناء لانتظار قيام المهدي(عليه السلام)في المجتمع الأسلامي.
* * *
____________________________
(1) راجع البحار الطبعة القديمة ج 13، ص 14.
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاَْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَلَ النَّاسِ بِالْبَـطِلِ وَيَصَدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَيُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لاَِنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن أعمال اليهود والنصارى المشوبة بالشرك، إِذ كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله.
الآية الأُولى محل البحث تقول: إِنّ أُولئك مضافاً إلى كونهم غير جديرين بالأُلوهية فهم غير جديرين بقيادة الناس أيضاً، وخير دليل على ذلك أعمالهم المتناقضة المضطربة.
فالآية هنا تلتفت نحو المسلمين فتخاطبهم بالقول:
(يا أيّها الذين آمنوا إِنّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله).
الطريف هنا أنّنا نواجه الأُسلوب نفسه في القرآن على ما عهدناه في أمكنة أُخرى من آياته، فالآية هنا لم تقل: إِنّ الأحبار والرهبان جميعهم ليأكلون، بل قالت:
(إِن كثيراً)
فهي تستثني الأقلية الصالحة منهم، وهذا النوع من الدقة ملحوظ في سائر آيات القرآن، وقد أشرنا الى ذلك سابقاً.
لكن كيف يأكلون أموال الناس دون مسوّغ أو مجوّز، أو كما عبّر القرآن «بالباطل» فقد أشرنا سابقاً الى ذلك في آيات أُخرى كما ورد في التأريخ شيء منه أيضاً، وذلك:
أوّلاً::إنّهم كتموا حقائق التعاليم التي جاء بها موسى(عليه السلام) في توراته وعيسى(عليه السلام)في إِنجيله، لئلا يميل الناس الى الدين الجديد، «الدين الإِسلامي» فتنقطع هداياهم وتغدو منافعهم في خطر، كما أشارت الى ذلك الآيات (41) و(79) و(174) من سورة البقرة.
والثّاني: إنّهم بأخذهم «الرّشوة» كانوا يقلبون الحق باطلا والباطل حقّاً، وكانوا يحكمون لصالح الأقوياء، كما أشارت الى ذلك الآية (41) من سورة المائدة.
ومن أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال هو ما يسمّى بـ «صكوك الغفران وبيع الجنّة» فكانوا يتسلمون أموالا باهظة من الناس، ويبيعون الجنّة بـ «صكوك الغفران» والغفران ودخول الجنّة منحصران بإِرادة الله وأمره، وهذا الموضوع ـ أي صكوك الغفران ـ يضجُّ به تأريخ المسيحيّة! كما أثار نقاشات وجدالا عندهم.
وأمّا صدّهم عن سبيل الله فهو واضح، لأنّهم كانوا يحرفون آيات الله، أو أنّهم كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصّة، بل كانوا يتهمون كل من يرونه مخالفاً لمقامهم ومنافعهم، ويحاكمونه ـ في محاكم تدعى بمحاكم التفتيش الديني بأسوأ
وجه، ويصدرون عليه أحكاماً جائرة قاسية جدّاً.
ولو لم يقوموا بمثل هذه الأعمال ولم يُقدموا على صدّ أتباعهم عن سبيل الله، لكان آلاف الآلاف من أتباعهم ملتفين اليوم حول راية الإِسلام ودين الحق من صميم أرواحهم وقلوبهم، فبناءً على ذلك يمكن أن يقال ـ بكل جرأة ودون تحفظ ـ أن آثام الآلاف من الجماعات في رقاب أُولئك «الرهبان والأحبار» لأنّهم كانوا سبباً في بقائهم في الظلمات، ظلمات الكفر والضلال ... .
وما زالت الكنيسة لحدّ الاّن تبذل قصارى وسعها ـ ولا يقصر في ذلك اليهود أيضاً ـ لتغيير أفكار عامّة الناس، وإِلفاتهم عن الإِسلام، كما وجه اليهود تهماً كثيرة عجيبة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذا الموضوع من الوضوح والشمول أنّ جماعة من علماء المسيحية المثقفين اعترفوا بأنّ أُسلوب الكنيسة في مواجهة الإِسلام ومحاربته أحد أسباب جهل الغربيين بالاسلام وعدم اطلاعهم على هذا الدين الطاهر.
وتعقيباً على موضوع حب اليهود والنصارى لدنياهم وأكل المال بالباطل، فإنّ القرآن يتحدث عن قانون كلّي في شأن أصحاب المال وذوي الثراء، الذين يكنزون أموالهم، فيقول:
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).
والفعل «يكنزُون» مأخوذ من مادة «الكنز» وهو المال المدفون في الأرض، وهو في الاصل جمع أجزاء الشيء، ومن هنا فقد سمّي البعير ذواللحم الكثير بأنّه «كناز اللحم» ثمّ استعمل الكنز في جمع المال وإِدخاره ودفنه، أو في الأشياء القيمة غالية الثمن.
فبناءً على ذلك فإنّ الكنز ملحوظ فيه الجمع والإِخفاء والمحافظة.
«الذهب والفضة» معدنان مشهوران، وكان النقد أو العملة سابقاً بالدينار الذهبي والدرهم الفضيّ.
ولبعض العلماء تعريف طريف في شأن هذين المعدنين ولُغتيهما «كما ذكر ذلك العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان» فقال: إِنّما سمّي الذهب ذهباً لذهابه عن اليد عاجلا، وإِنّما سمّيت الفضة لإِنفضاضها أي لتفرّقها، ولمعرفة مآل وحقيقة هذه الثروة فإنّ هذه التسمّية كافية (لكلّ من المالين ـ الذهب والفضة).
ومنذ كانت المجتمعات البشرية كانت مسألة المبادلة ـ سلعةً بسلعة ـ رائجة بين الناس، فكان كلُّ يبيعُ ما يجده زائداً على حاجته من المحاصيل الزراعية أو الدواجن بجنس آخر، أو بضاعة أُخرى، لأنّ النقد «الدينار أو الدرهم» لم يكن آنئذ، لكن لما كانت المبادلة ـ أعني مبادلة الأجناس أو البضائع ـ تُحدث بعض المشاكل أو المصاعب، لعدم وجود ما يحتاجه البائع، دائماً فقد يكون هناك شيء آخر ـ مثلا ـ يراد تبديله، فقد دعت الحاجة الى اختراع النقد.
وقد كان وجود الفضة، بل الأهم منه وجود الذهب، مدعاة الى تحقق هذه الفكرة، وهي أن تمثل الفضة القيمة الدانية، وأن يمثل الذهب القيمة الغالية، وبهما اتّخذت المعاملات رونقاً جديداً بارزاً.
فبناء على ذلك فإنّ الحكمة الأصيلة من النقد ـ الذهب والفضة ـ هي سرعة تحرك عَجلةِ المبادلات الإِقتصادية.
أمّا الذين يكنزون الذهب والفضة، فهم لا يكونون سبباً لركود الوضع الإِقتصادي والضرر بالمجتمع فحسب، بل إِنّ عملهم هذا مخالف لفلسفة ابتداع النقد واختراعه.
فالآية محل البحث تحرم الكنز وجمع المال، والثروة بصراحة، وتأمر المسلمين أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله وما فيه نفع عباد الله، وأن يتجنبوا كنزها ودفنها وإبعادها عن تحرك السوق، وإِلاّ فلينتظروا «العذاب الأليم».
وهذا العذاب الأليم ليس جزاءهم في يوم القيامة فحسب، بل يشملهم في الدنيا ـ لإِرباكهم الحالة الإِقتصادية ولإِيجاد الطبقية بين الناس «الفقير والغني» أيضاً.
وإِذا لم يكن أهل الدنيا يعرفون أهمية هذا الدّستور الإِسلامي بالأمس، فنحن نستطيع أن ندركه جيداً، لأنّ الأزمات الإِقتصادية التي أُبتلي بها البشر نتيجة احتكار الثروة من قبل جماعة «أنانية»; وظهورها على صورة حروب وثورات وسفك دماء، غير خاف على أحد أبداً.
هناك كلام بين المفسّرين في شأن الآية ـ محل البحث ـ فهل كلّ جمع للمال أو ادخار له يعدّ كنزاً، لأنّه زائد على حاجة الإِنسان، فهو حرام وفق مفهوم الآية...
أو أنّ الحكم خاصّ ببداية الإسلام وقبل نزول حكم الزّكاة ثّم ارتفع حكم الكنز بنزول حكم الزّكاة...
أو أنّه يجب على الإِنسان دفع زكاته سنوياً لا غير، فإذا دفع الإِنسان زكاة سنته فلا يكون مشمولا بحكم الكنز وإن جمع المال؟
في كثير من الرّوايات الصادرة عن أهل البيت(عليهم السلام) وروايات أهل السّنة، يلوح لنا التّفسير الثّالث، ففي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أي مال أدّيت زكاته فليس بكنز».(1)
كما نقرأ في بعض الرّوايات أنّه لمّا نزلت آية الكنز ثقل على المسلمين الأمر، فقالوا: ليس لنا أن ندخر شيئاً لأبنائنا إِذاً، ثمّ سألوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «إِن الله لم يفرض الزكاة إلاّ ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإِنّما فرض المواريث من أموال تبقى بَعْدَكم».(2)
أي أن جمع المال لو كان ـ بشكل عام ممنوعاً ـ لما وجدنا لقانون الإِرث موضوعاً.
____________________________
1 ـ المنار، ج 10، ص 404.
2 ـ المصدر السّابق.
وفي كتاب الأمالي للشيخ الطوسي(قدس سره) ورد هذا المضمون ذاته عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «من أدى زكاة مال فما تبقّى منه ليس بكنز».(1)
إِلاّ أنّنا نقرأ روايات أُخرى في المصادر الإِسلامية لا ينسجم ظاهراً ـ ولأوّل وهلة ـ والتّفسير الآنف الذكر، ومنها ما ورد عن الإِمام علي(عليه السلام) في مجمع البيان أنّه قال: «ما زاد على أربعة آلاف(2) فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّها، وما دونها فهي نفقة، فبشرهم بعذاب أليم».(3)
وقد ورد في الكافي عن معاذ بن كثير، أنّه سمع عن الصادق(عليه السلام) يقول: «لشيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم في الخيرات، وما بقي فهو حلال لهم، إلاّ أنّه إِذا ظهر القائم حرم جميع الكنوز والأموال المدخرة حتى يؤتى بها إليه ويستعين بها على عدوه، وذلك معنى قوله تعالى:
(والذين يكنزون الذهب والفضة).(4)
ونقرأ في سيرة أبي ذر رضوان الله عليه في كثير من الكتب أنّه لما كان في الشام، كان يقرأ الآية ـ محل البحث ـ في شأن معاوية، ويقول بصوت عال صباح مساء: «بشر أهل الكنوز بكىّ في الجباه وكىّ بالجنوب وكىّ بالظهور أبداً حتى يتردّد الحرّ في أجوافهم».(5)
كما يظهر من استدلال أبي ذر(رضي الله عنه) بالآية في وجه عثمان، أنّه كان يعتقد أنّ الآية لا تختص بمانعي الزّكاة، بل تشمل غيرهم أيضاً.
ويمكن الإِستنتاج من مجموع الأحاديث ـ آنفة الذكر ـ منضمةً إِليها الآية محل البحث، أنّه في الظروف الإِعتيادية المألوفة، حيثُ يرى الناس آمنين، أو غير محدق بهم الخطر، والمجتمع في حال مستقر، فيكفي عندئذ دفع الزكاة وما تبقى لا
____________________________
1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 213.
2 ـ المقصود بها أربعة آلاف درهم لأنّها مخارج السنة.
3 ـ مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث، ونورالثقلين، ج 2، ص 213.
4 ـ نورالثقلين، ج 2، ص 213.
5 ـ نورالثقلين، ج 2، ص 214 و تفسير البرهان، ج 1، ص 122.
يعد كنزاً. وينبغي الإِلتفات بطبيعة الحال الى أنّه مع رعاية الموازين الإِسلامية، وما هو مقرر في شأن رؤوس الأموال والأرباح، فإنّ الأموال لا تتراكم بشكل غير مألوف فوق العادة، لأنّ الإِسلام وضع قيوداً وشروطاً للمال لا يتسنى للانسان معها جمع الاموال وادّخارها.
وأمّا في الحالات غيرالطبيعية وغير الإِعتيادية، وعندما يقتضي حفظُ مصالح المجتمع الإِسلامي ذلك، فإنّ الحكومة الإِسلامية، تحدّد لجمع المال مقداراً، كما مرّ في حديث الإِمام علي(عليه السلام) أو تطالب الناس بالكنوز وما جمعوه من المال كليّاً، كما هو الحال في قيام المهدي، إِذ مرّت رواية الإِمام الصادق(عليه السلام) مع ذكر العلّة ... «فيستعين به (أي المال) على عدوّه».
إِلاّ أنّنا نكرر القول بأنّ هذا الموضوع يختص بالحكومة الإِسلامية، وهي التي لها حق البتّ والتصميم في مواطن الضرورة والإِقتضاء «فلاحظوا بدقّة».
وأمّا قصّة أبي ذر(رضي الله عنه) فلعلّها ناظرة الى هذا الموضوع ذاته، إِذا كان المجتمع الإِسلامي في حاجة ماسة وشديدة للمال، وكان جمع المال وكنزه مخالفاً لمنافع المجتمع وحفظ وجوده.
ومع أن أبا ذر(رضي الله عنه) كان ناظراً الى أموال «بيت المال» التي كانت عند عثمان ومعاوية، ونحن نعرف أنّه مع وجود المستحقين لا يجوز تأخير دفع المال عنهم لحظة واحدة، بل يجب دفعه الى أصحابه فوراً، ولا علاقة لمسألة الزكاة بهذا الموضوع أبداً.
على أنّ التواريخ الإِسلامية ـ سنّية وشيعية ـ مجمعة وشاهدة على أنّ عثمان وزّع أموال بيت المال الضخمة الطائلة على أقاربه، وأن معاوية بنى من بيت مال المسلمين قصراً ضحماً أحيا به أساطير قصور الساسانيين، وكان لأبي ذر رضوان الله عليه الحق في أن يحتج بالآية محل البحث أمامها.
من المؤاخذات على الخليفة الثّالث مسألة إبعاد أبي ذر(رضي الله عنه) المصحوب بالقسوة والخشونة الى الرّبذه، تلك المنطقة التي كان يبغضها أبوذر والتي كانت غير صالحة من حيث الماء والهواء، حتى إنتهى الأمر الى موت هذا الصحابي الجليل والمجاهد المضحي في سبيل الإِسلام، وهو الذي قال فيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ».
ونعرف أنّ الإِختلاف بين أبي ذر وعثمان لم يكن لأنّ أباذر كان يتمنى المال أو المقام، بل على العكس فقد كان أبوذر زاهداً عابداً ورعاً من جميع الوجوه، بل منشأ الخلاف وأساسه، هو أن عثمان فرّق مال بيت مال المسلمين على ذوي قرباه وأصحابه وأنفقه بلاحساب.
وكان أبوذر(رضي الله عنه) متشدداً في الأُمور المالية، ولا سيّما ما كان منها متعلقاً ببيت مال المسلمين، وكان يرغب في أن يسير جميع المسلمين على سنة النّبي في هذا المجال، والتصرف بالمال، لكننا نعرف أنّ الأُمور أخذت طابعاً آخر في عصر الخليفة الثّالث عثمان.
وعلى كل حال، فإنّ أباذر(رضي الله عنه) لما واجه الخليفة الثّالث بشدّة، وعنّفه في إِنفاق المال، أرسله عثمان الى الشام بادىء الأمر، فواجه أبوذر معاوية هناك بصورة أشدّ نقداً وأكثر صراحة، حتى أنّ ابن عباس قال: لقد برم معاوية من كلام أبي ذر وكتب الى عثمان: إِنّه إِن كانت لك حاجة في الشام فخذ أباذر، فإنّه إِن بقي فيها فسوف يصرف أهلها عنك.
فكتب عثمان كتاباً وأحضر أباذر الى المدينة، وكما يقول بعض المؤرّخين: كتب عثمان الى معاوية، أن ابعث أباذر في جماعة من شرطتك ولا ترفّه عليه، وليجدّوا به السير ليل نهار، ولا يدعوه يستريح لحظة، حتى أن أباذر لما وصل المدينة مرض هناك ولما لم يكن وجوده في المدينة هيّناً على عثمان وأتباعه، فقد
نفوه الى «الرّبذة» حتى مات(رحمه الله) فيها.
وهناك من يحاول الدفاع عن الخليفة الثّالث ويتّهم أباذر أحياناً بأنّه اشتراكي، إِذ كان يرى أنّ جميع الأموال عائدة الى الله، وكان ينكر الملكية الفردية!!
وهذا الإِتهام في منتهى الغرابة، فمع أنّ القرآن يحترم الملكية الفردية بصراحة ـ وفق شروط معينة ـ وكان أبوذر(رضي الله عنه) من المقرّبين الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتربّى في حضن الإِسلام والقرآن، وما أظلت الخضراء أصدق منه، فكيف يتهم أبوذر بمثل هذا الإِتهام؟!
إِنّ قاطني الصحراء البعيدين يعرفون هذا الحكم الإِسلامي، وكانوا قد سمعوا الآيات التي تتعلق بالتجارة والإِرث، فكيف يمكن أن يُصدق بأن أقرب تلامذة رسول الله كان جاهلا بهذا الحكم؟
أليس ذلك لأنّ المتعصبين الألداء من أجل تبرئة الخليفة الثّالث والأعجب من ذلك تبرئة معاوية وحكومته ـ إتهموا أباذرّ بمثل هذا الإِتهام، وما يزال بعض من عمي العيون صمّ الآذان يقلدون أسلافهم؟!
أجَل إِن أباذر(رضي الله عنه) ـ بوحي واستلهام من آيات القرآن وخاصّة آية الكنز ـ كان يعتقد ويصرّح بعقيدته أن بيت المال لا ينبغي أن يتحول الى ملكية فردية بيد الأشخاص، ويجب ألاّ يُحرم المستضعفون والمحتاجون منه، وينبغي أن ينفق في سبيل تقوية الإِسلام ومصالح المسلمين، فلايجوز تبذير الأموال، وأن بيت المال ليس ملكاً لمعاوية وأضرابه كي يشيد بهذه الأموال القصور على شاكلة قصور الأكاسرة والقياصرة!
ثمّ إِنّ أباذر كان يعتقد يومئذ أنّه بإمكان الأغنياء أن يقنعوا بما دون الإسراف، ليواسوا إخوانهم الفقراء، وينفقوا أموالهم في سبيل الله.
فإِذا كان أبوذر(رحمه الله) ذا وزر فوزره ما ذكرناه إلاّ أن المؤرّخين المتملقين، أو الذين يؤرخون للارتزاق ويبيعون دينهم بدنياهم، غيرّوا صورة هذا الصحابي المجاهد
الناصع فجعلوه اشتراكياً!!
وما يؤخذ على أبي ذر من وزر أيضاً هو حبّه الشديد للإِمام علي(عليه السلام)، فقد كان هذا كافياً لأن يقوم بنو أمية بأساليبهم وأراجيفهم الخبيثة الجهنمية باسقاط حيثية أبي ذر، إلاّ أن نقاءه وطهارته ومعرفته بالأحكام الإِسلامية كانت ناصعة الى درجة أنّهم افتضحوا ولم يفلحوا في مرامهم.
ومن جُملة الأكاذيب العجيبة التي ألصقوها بأبي ذر لتبرئة الخليفة الثّالث، ما ذكره ابن سعد في «الطبقات»: إِنّ جماعة من أهل الكوفة جاؤوا أباذر عندما نفاه عثمان الى الرّبذه فقالوا: إن هذا الرجل (أي عثمان) فعل ما فعل بك، فهل مستعد أن ترفع راية تقاتل بها عثمان، ونحن نقاتله تحت رايتك؟ فقال أبوذر: كلاّ، لو أرسلني عثمان من المشرق الى المغرب لكنت مطيعاً لأمره.(1)
ولم يلتفت هؤلاء الوضّاعون الى أنّه لو كان مطيعاً لأمره، لما كان عثمان يضيق ذرعاً به فيكون عليه ـ في المدينة ـ عبئاً ثقيلا لايستطيع حمله أبداً.
والأعجب من ذلك ما ذكره صاحب المنار ـ ذيل الآية محل البحث ـ مشيراً الى قصّة أبي ذر وماجرى بينه وبين عثمان، فيقول: إِن قصّة أبي ذر تدل على أن عصر الصحابة ـ ولا سيما عصر عثمان ـ كان إِظهار العقيدة فيه مألوفاً، وكان العلماء محترمين، والخلفاء ذوي ولاء، حتى أن معاوية لم يجرؤ أن يقول شيئاً لأبي ذر، بل كتب كتاباً الى من هو فوقه مرتبة ـ أي عثمان ـ وطلب منه أن يرى فيه رأيه!!
والحق أنّ التعصّب قد يصنع الاعاجيب، فهل كان ـ التبعيد والنفي الى الأرض اليابسة الحارة المحرقة «الرّبذة» أرض الموت والنّار تعبير عن احترام حرية الفكر ومحبّة العلماء !!
هل أنّ تسليم هذا الصحابي الجليل «بيد الموت» يعدّ دليلا على حرية العقيدة!!
____________________________
1 ـ تفسير المنار، ج 10، ص 406.
وإِذا كان معاوية لم يستطيع أن يجرؤ على قتل أبي ذر أو التآمر عليه ـ خوفاً من إِنكار عامّة الناس ـ فهل يعدّ ذلك احتراماً لأبي ذر من قبل معاوية؟!
ومن عجائب هذه القصّة ـ أيضاً ـ أن المدافعين عن الخليفة الثّالث يقولون: إِن تبعيد أبي ذر كان بحكم قانون[تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؟] لأنّه وإِن كان لوجود أبي ذر في المدينة مصلحة كبيرة، وكان الناس يستفيدون من علمه، إِلاّ أنّ عثمان كان يرى أن بقاءه في المدينة يجر المفسدة ـ لطريقة تفكيره ـ ويحدث انعطافاً شديداً لا يمكن تحمله، فلأجل ذلك أغضى عثمان عن المصلحة في وجوده وأخرجه الى الرّبذة دفعاً للمفسدة ولما كان كل من أبي ذر وعثمان مجتهداً، فلا يمكن توجيه النقد أو الإِشكال أو أي شيء آخر إِليه.(1)
ونحن بدورنا نتساءل: آية مفسدة كانت تترتب على وجود أبي ذر في المدينة؟!
ترى هل في إِعادة الناس الى سنة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مفسدة؟!
ولم لا يشكل أبوذر(رضي الله عنه) على الخليفة الأوّل ولا الثّاني اللذين لم يفعلا ما فعله عثمان في أموال المسلمين «وبيت المال»؟!
وهل في إعادة الناس الى المناهج المالية التي كانت في صدر الإِسلام مفسدة؟!
وهل في نفي أبي ذر وقطع لسان الحق مصلحة؟!
ألم تؤد أعمال عثمان واستمراره بإتفاق بيت المال الى أن أصبح ضحية لكل ذلك؟!
ألم يكن ذلك مفسدة وتركه مصلحة؟!
ولكن ما عسى أن نفعل، فإِذا دخل التعصب من باب فرّ المنطق من باب آخر!!
وعلى كل حال، فإنّ سيرة هذا الصحابي الجليل لا تخفى على أي محقق
____________________________
1 ـ راجع المنار، ج 10، ص 407.
منصف، ولا مجال لتبرئة الخليفة الثّالث ممّا نال من أبي ذر من الأذى أبداً، والمنطق الحق يدين أعمال عثمان.
جزاء من يكنز!
في الآية التّالية إشارة الى واحد ممّا يحيق بمثل هؤلاء ممّن يكنز المال في العالم الآخر، إِذ تقول الآية:
(يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم).
ويخاطبهم ملائكة العذاب وهم في هذه الحال:
(هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).
وهذه الآية توكّد مرّة أُخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ أعمال الإِنسان لا تمضي سدى، بل تبقى وتتجسّد له يوم القيامة، وتكون مدعاة سروره أو مدعاة شقائه.
وهناك كلام بين المفسّرين في سبب ذكر الجباه والظهور والجنوب وحدها من بين سائر أعضاء الجسم.
غير أنّه روي عن أبي ذرّ(رضي الله عنه) أنّه كان يقول: «حتى يتردد الحرّ في أجوافهم» أي أن الحرارة المحرقة التي تمس هذه الأعضاء الثلاثة تنفذ الى سائر الجسم وتستوعبه كلّه.
كما قيل: إِنّ الوجه في ذكر هذه الإعضاء الثلاثة دون غيرها، هو أنّ أصحاب المال حين كان يأتيهم المحروم أو الفقير، كان ردّ فعلهم يظهر على جباههم أحياناً، فيظهرون عدم الإِعتناء بهم، وتارةً ينحرفون عنهم، وتارةً يديرون ظهورهم لهم، فهذه الأعضاء الثلاثة تكوى في نار جهنم، بما حُمي عليه من الذهب أو الفضة وما كنزوه دون أن ينفقوه في سبيل الله.
ومن نافلة القول أن نشير الى لطيفة بلاغية، في الآية محل البحث وهي التعبير بـ«يوم يحمى عليها» أي يُحمى على الذهب والفضة، والتعبير المطّرد أن يقال: يوم
تحمى الفضة أو يُحمى الذهب، لا أنّه يحمى عليه، كما يقال مثلا: يحمى الحديد في النّار.
ولعل هذا العبير يشير الى إِحراق الذهب والفضة الى درجة قصوى بحيث توضع النّار عليها. إِذ أن جعل الفضة والذهب على النّار لا يكفي لأن تكون محرقة «للغاية».
فالقرآن لا يقول: يوم تحمى في نار جهنم، بل يقول: يحمى عليها، أي توضع النّار عليها لتكون في اسفل النّار كيما تشتد حرارتها وهذا التعبير الحيّ يجسّد شدة عذاب أولي الثروة الذين يكنزونها في يوم القيامة.
الآيتان
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَاعَشَرَ شَهْراً فِى كِتَـبِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَـتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَـتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(36)إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَـلِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـفِرِينَ(37)
التّفسير
وقف القتال «الإِجباري»:
لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثاً مفصلةً حول قتال المشركين، فالآيتان ـ محل البحث ـ تشيران الى أحد مقرّرات الحرب والجهاد في الإِسلام، وهو احترام الأشهر الحُرم.
فتقول الأُولى:
(إِنّ عدّة الشهور عندالله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض).
والتعبير بـ «كتاب الله» يمكن أن يكون إِشارة الى القرآن المجيد أو سائر الكتب السماوية، إلاّ أنّه بملاحظة جملة
(يوم خلق السماوات والأرض)
يبدو أنّ المعنى الأكثر مناسبة هو كتاب الخلق وعالم الوجود.
وعلى كل حال، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة.
وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيّم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس جميعاً نظاماً طبيعياً، وينظّم على وجه الدقة حسابهم التأريخي، وتلك نعمة عظمى من نعم الله للبشر كما بيّنا تفصيل ذلك في ذيل الآية (189) من سورة البقرة:
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج).
ثمّ تضيف الآية ـ آنفة الذكر ـ معقبّةً:
(منها أربعة حرم).
يرى بعض المفسّرين أنّ تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد «إِبراهيم الخليل(عليه السلام)»، وكان نافذ حتى في زمان الجاهلية على أنّه سنة متّبعة إلاّ أنّ عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذا الأشهر أحياناً تبعاً لميولهم وأهوائهم، إلاّ أنّ الإِسلام أقرّ حرمتها على حالها ولم يغيّرها، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى بالأشهر السَرد وهي: ذوالقعدة، وذو الحجة، والمحرم. وشهر منها منفصل عنها، وهو رجب ويسمى بالشهر الفرد.
وينبغي التنويه على أنّ تحريم هذه الأشهر إِنّما يكون نافذ المفعول إِذا لم يبدأ العدو بقتال المسلمين فيها، أمّا لو فعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين لأنّ احترام الشهر الحرام لم يُنتقض من قبلهم، بل انتقض من قبل العدوّ «وقد بيّنا تفصيل ذلك ذيل الآية (194) من سورة البقرة».
ثمّ تضيف الآية مؤكّدة:
(ذلك الدين القيّم).
ويستفاد من بعض الرّوايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم، كان مشرّعاً في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية، إِضافة الى شريعة إِبراهيم الخليل(عليه السلام). ولعلّ التعبير بـ
(ذلك الدين القيم)
إِشارة الى هذه اللّطيفة، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت:
ثمّ تقول الآية:
(فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم).
إِلاّ أنّه لمّا كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)
فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة، إلاّ أنّهم يقاتلونكم في صف واحد، «كافة» فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحّدون فلابدّ من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص.
وتختتم الآية بالقول:
(واعلموا أنّ الله مع المتقين).
وفي الآية الثّانية ـ من الآيتين محل البحث ـ إشارة الى إِحدى السُنن الخاطئة في الجاهلية، وهي سنة النسيء «تغيير الأشهر الحرم» إِذ تقول الآية:
(إِنّما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا)
ففي أحد الاعوام يقرّرون حليّة الشهر الحرام ويحرمون أحد الأشهر الحلال للمحافظة على العدد أربعة
(يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم الله)!
فهؤلاء يضيعون بتصرفهم هذا فلسفة تحريم الأشهر، ويتلاعبون بحكم الله بحسب ما تمليه عليهم أهواؤهم، والعجيب أنّهم يرضون عن عملهم، وفعلهم هذا كما تقول الآية:
(زّين لهم سوء أعمالهم).
فهم يغيرون الأشهر الحرم ويبدلونها، ويعدّون ذلك تدبيراً لحياتهم ومعاشهم، أو يتصوّرون أنّ طول فترة إيقاف القتال يقلل من حماس المقاتلين فلابدّ من إِثارة الحرب ... .
فالله سبحانه إِذا علم أن في عباده من ليس أهلا للهداية والتوفيق، خلاه ونفسه:
(والله لا يهدي القوم الظالمين).
* * *
بحوث
1 ـ فلسفة الأشهر الحُرُمِ!
كان تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة أحَدَ الطرق لإِيقاف الحروب الطويلة الأمد ووسيلة للدعوة نحو الصلح والدعة، لأنّ المحاربين إِذا وضعوا أسلحتهم في هذه الأشهر الأربعة، وأخمدت نيران الحرب ووجدت الفرصة للتفكير، فمن غير المستبعد أن تنتهي الحرب ويحل السلام محلّه، لأنّ الشروع المجدد بعد إيقاف القتال وانطفاء نار الحرب في غاية الصعوبة، ولا ننسى أن المقاتلين في حرب فيتنام خلال العشرين سنةً من الحرب كانوا يواجهون صعوبة كبيرة لإِيقاف القتال خلال أربع وعشرين ساعة لبداية العام الميلادي الجديد، إلاّ أنّ الإِسلام جعل لأتباعه قراراً بإيقاف القتال خلال أربعة أشهر، وهذا الأمر بنفسه يدل على روح السلام في الإِسلام والمطالبة بالصلح.
إِلاّ أنّ العدو إِذا أراد أن يستغلّ هذا القانون الإِسلامي، وأن ينتهك حرمة هذه الأشهر فعلى المسلمين أن يواجهوه بالمثل.
2 ـ مفهوم النسيء وفلسفته في الجاهليّة
«النسيء» على وزن «الكثير» من مادة «نسأ» ومعناها التأخير ويمكن أن تكون هذه الكلمة اسم مصدر أو مصدراً، وتطلق على ما يؤجل من إِعطاء المال أو قبضه.
وكان عرب الجاهلية يؤخرون بعض الأشهر الحرم، فمثلا كانوا ينتخبون شهر
«صفر» بدل شهر محرم في عام فيحرمونه، كما حدث لأحد زعماء قبيلة بني كنانة، إِذ خطب في اجتماع كبير نسبيّاً في موسم الحج بمنى وقال: إِنّني أخرت المحرم هذا العام وانتخبت شهر صفر مكانه.
وقد روي عن ابن عباس: إِنّ أوّل من سنّ هذه السنّة هو عمرو بن لحي، وقال بعضهم: بل هو قلمس «من بني كنانة».
وفلسفة هذا العمل «التأخير والنسيء» في عقيدتهم أن توالي ثلاثة أشهر حُرم تباعاً كذي القعدة وذي الحجة والمحرم يسبب إضعاف معنويات المحاربين، لأنّ عرب الجاهلية كانوا يتوقون الى الإِغارة وسفك الدماء والحرب، وأساساً فإنّ الحرب والإِغارة وما شاكلهما كان يمثل جزءاً من حياتهم، وكان من الصعب عليهم أن يتحملوا ثلاثة أشهر حرم (يتوقف فيها القتال) لذا فقد كانوا يسعون لفصل شهر المحرم عن هذه الأشهر (أو يؤخروه)!
كما يرد هذا الإِحتمال أيضاً، وهو أنّ ذا الحجة قد يقع في الصيف أحياناً، ممّا يسبب عليهم، حرجاً في موضوع الحج، ونعرف أن الحج لم يكن مسألة عبادية عندالعرب فحسب، بل كان موسماً كبيراً منذ زمن إِبراهيم الخليل(عليه السلام) يجتمع فيه خلق كبير، وتقام فيه الأسواق التجارية والإِقتصادية والمحافل الشعرية والخطابية، ويفيدون منها فوائد عامّة، لذلك كانوا يبدلون شهر ذي الحجة حسب ميولهم ويجعلون مكانه شهراً آخر طيب الأجواء لطيف الهواء.
وربّما كانت كلا الغايتين صحيحتين.
وعلى كل حال، كان هذا العمل باعثاً على إشعال نار الحرب أكثر فأكثر، وأن تُسحق الغاية من الأشهر الحرُم، وأن يتلاعب بمواسم الحج حسب الأهواء ابتغاء المنافع المادية.
وقد عدّ القرآن هذا العمل زيادةً في الكفر، لأنّهم إِضافةً إلى شركهم وكفرهم الإِعتقادي فإنّهم بسحقهم هذا الدستور كانوا يرتكبون كفراً عملياً، ولا سيما أنّهم
كانوا يرتكبون مخالفتين في آن واحد إِذ كانوا يحرّمون ما أحل الله ويحلّون ما حرّم الله.
3 ـ وحدة الكلمة مقابل العدو
إِنّ القرآن يعلمنا في الآيتين آنفتي الذكر أن نقف صفاً واحداً بوجه العدو عند الحرب، ويستفاد من هذا النص القرآني أنّه ينبغي التنسيق حتى في المواجهات السياسية والثقافية، والإِقتصادية والعسكرية فنحن نكتسب القوة في ظل هذه الوحدة التي تنتهل من روح الإِسلام وهذا الأمر قد جُعل في طي النسيان وكان مدعاة الى انحطاط المسلمين وتأخرهم.
4 ـ كيف يُزيَّنُ للناسِ سوءُ أعمالهم؟!
إِنّ فطرة الإِنسان إِذا كانت نقيّة تميز الصالح من الطالح بصورة جيدة، إلاّ أنّه حين يذنبُ الإِنسان ويخطو في طريق الآثام فإنّه يفقد هذا الإحساس «بتمييز الصالح من الطالح» تدريجاً.
ومتى ما واصل الإِقدام على السيئات، تبدو له سيئاته وكأنّها أمر حسن وتتزين له، وهذ ما أشارت إليه آيات القرآن ـ في هذا المورد ـ وفي موارد أُخرى.
وقد يُنسب تزيين الأعمال السيئة للشيطان، كما في الآية (63) من سورة النحل
(فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم)
وقد يسند الفعل الى ما لم يُسمَّ فاعله ويُبنى للمجهول كما في الآي محل بحثنا، وقد يكون الفاعل وسوسة الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء. وقد ينسب الى الشركاء أي الأصنام، كما في الآية (137) من سورة الأنعام، وقد يُنسب تزيين الأعمال السيئة الى الله، كما في الآية (4) من سورة النمل
(إِنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم).
وقد قلنا مراراً: إِنّ نسبة مثل هذه الأُمور الى الله مع أنّها تخصّ عمل الإِنسان
نفسه لأن خواص الأشياء بيد الله، فهو مسبب الأسباب. وقلنا بأن مثل هذه النسبة لا تنافي مسألة الإِختيار وحرية إرادة الإِنسان.
* * *
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)